الولايات المتحدة الأمريكية.. قرصنةٌ بمعايير مزدوجة
من البحر الأحمر إلى الكاريبي … حين تُحارب واشنطن “القرصنة” وتمارسها باسم العقوبات

اليمن الجديد نيوز | تقارير وتحليلات
في مفارقة لافتة تكشف عمق التناقض في الخطاب الأمريكي، انتقلت واشنطن من اتهام حكومة صنعاء في البحر الأحمر بـ«القرصنة وتهديد الملاحة الدولية»، إلى تنفيذ عملية احتجاز عسكري مباشر لناقلة نفط قبالة السواحل الفنزويلية، في خطوة وُصفت في كاراكاس بأنها «سرقة سافرة» وانتهاك فجّ للسيادة الوطنية.
الحدث لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الأوسع لحرب الولايات المتحدة في البحار المفتوحة، سواء في البحر الأحمر بذريعة حماية التجارة العالمية، أو في الكاريبي تحت غطاء العقوبات.
ففي الحالتين، تبرز القوة العسكرية كأداة تنفيذ، بينما يغيب القانون الدولي عندما لا يخدم المصالح الأمريكية.
من البحر الأحمر إلى الكاريبي: من يحدد معنى القرصنة؟
منذ بدء العمليات اليمنية في البحر الأحمر، سعت واشنطن إلى تأطير ما يجري باعتباره «قرصنة» و«تهديداً لأمن الملاحة»، وبنت على هذا الوصف تحالفاً عسكرياً وعمليات ضرب واسعة.
غير أن احتجاز ناقلة نفط فنزويلية بالقوة، عبر إنزال مسلح من المروحيات في عرض البحر، يطرح سؤالاً جوهرياً: أين ينتهي «تطبيق القانون»، وأين تبدأ القرصنة عندما تمارسها دولة عظمى؟
في الحالة الفنزويلية، لم يكن هناك قرار أممي يجيز الاعتراض، ولا حالة حرب معلنة، بل عملية عسكرية مباشرة ضد سفينة تجارية في المياه الدولية.
وهو سلوك يُعيد إلى الأذهان الخطاب اليمني الذي شدد مراراً على أن ما تقوم به واشنطن وحلفاؤها هو عسكرة للبحار واستخدام انتقائي للقانون الدولي.
أكبر ناقلة يتم الاستيلاء عليها .. واستعراض قوة سياسي
إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاستيلاء على «أكبر ناقلة على الإطلاق» لم يكن مجرد تصريح عابر، بل رسالة سياسية متعددة الاتجاهات.
فالعملية التي استهدفت ناقلة «سكيبر»، المرتبطة بشبكات نقل نفط خاضعة للعقوبات، نُفذت بأسلوب عسكري صريح، وبمشاركة أجهزة أمنية متعددة، في مشهد يقترب كثيراً من عمليات السيطرة القسرية التي تصفها واشنطن نفسها بأنها «أعمال عدائية» عندما تصدر من خصومها.
وبحسب بيانات التتبع، كانت الناقلة خارج أنظمة الملاحة التجارية، وهو التفصيل الذي تستخدمه الولايات المتحدة لتبرير عملياتها.
غير أن هذا التبرير ذاته هو ما ترفضه عندما يتعلق الأمر بسفن مرتبطة باليمن أو بإيران، حيث يتم توصيف أي إجراء مضاد فوراً على أنه «تهديد للملاحة العالمية».
النفط كسلاح .. والحرب واحدة وإن اختلفت الجبهات
اللافت أن احتجاز الناقلة جاء في توقيت حساس تشهد فيه أسواق الطاقة توتراً متصاعداً، بفعل الحرب في غزة، والتوتر في البحر الأحمر، والعقوبات على روسيا وإيران وفنزويلا.
ومع ارتفاع أسعار النفط مباشرة بعد العملية، يتأكد أن عسكرة البحار لم تعد استثناءً، بل أداة ضغط رئيسية في الصراع الدولي.
وهنا يبرز وجه الشبه الأوضح مع ما يجري في البحر الأحمر، حيث ترى صنعاء أن استهداف السفن المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي هو رد سياسي-عسكري على حرب مفتوحة، بينما تصر واشنطن على فصل الاقتصاد عن السياسة.
غير أن اعتراض ناقلة فنزويلية يثبت أن الاقتصاد نفسه بات ساحة حرب عندما يتعلق الأمر بالمصالح الأمريكية.
كاراكاس تتهم بالقرصنة .. والخطاب اليمني يعود إلى الواجهة
وصف الحكومة الفنزويلية للعملية بأنها «قرصنة» ليس جديداً في القاموس السياسي، لكنه يكتسب دلالة خاصة في ظل الحرب الإعلامية التي تقودها واشنطن ضد حكومة صنعاء.
فالتوصيف ذاته الذي ترفضه الولايات المتحدة عندما يُستخدم ضدها، هو ما تفرضه بلا تردد على خصومها.
تعهد كاراكاس باللجوء إلى الهيئات الدولية يعكس إدراكاً متزايداً بأن ميزان القوة لا يحسم فقط في البحار، بل في الرواية أيضاً.
وهو ما يشبه إلى حد بعيد المسار الذي اتبعته صنعاء، حين سعت إلى تأطير عملياتها في البحر الأحمر كجزء من معركة سياسية وأخلاقية، لا كأعمال «قرصنة» معزولة.
القانون الدولي عند حافة البارجة
من الناحية القانونية، تمتلك واشنطن أدوات لمصادرة سفن خاضعة للعقوبات، لكنها نادراً ما تلجأ إلى التنفيذ العسكري المباشر.
عودة هذا الأسلوب، بعد أكثر من عقد على آخر عملية مشابهة، يشير إلى تحول في قواعد الاشتباك البحرية، حيث تُفرض الإرادة بالقوة ثم يُبحث عن الغطاء القانوني لاحقاً.
هذا التحول يعزز الرواية التي تقول إن النظام الدولي لم يعد قائماً على قواعد ثابتة، بل على ميزان قوة متحرك.
وهي الفكرة ذاتها التي تقوم عليها المقاربة اليمنية: إذا كان القانون يُستخدم بشكل انتقائي، فإن الرد خارج هذا الإطار يصبح، من وجهة نظر أصحابه، أمراً مشروعاً.
رسالة واحدة .. وساحات متعددة
ما بين البحر الأحمر والكاريبي، تتكشف صورة واحدة: الولايات المتحدة تخوض حرباً مفتوحة على طرق الطاقة والتجارة عندما ترى أن مصالحها مهددة، سواء سمّت ذلك «حماية الملاحة» أو «تطبيق العقوبات».
وفي المقابل، تُوصم أي قوى أخرى تستخدم المنطق ذاته بالقرصنة أو الإرهاب.
احتجاز الناقلة الفنزويلية لا يبدو حادثاً منفصلاً، بل حلقة جديدة في مسار عسكرة البحار، يعزز الشكوك حول ازدواجية المعايير، ويمنح خصوم واشنطن مادة سياسية وأخلاقية إضافية.
وفي عالم تتزايد فيه الأزمات، يبدو أن تعريف «القرصنة» لم يعد قانونياً بقدر ما هو سياسي… يُمنح لمن يُراد، ويُسحب ممن يملك القوة.



