حين يتحول قسم الشفاء إلى غرفة وداع

اليمن الجديد نيوز | تقارير | خاص |
كانت الطبيبة آلاء النجار تمارس عملها كالمعتاد في قسم الأطفال بمجمع ناصر الطبي في خان يونس، اعتادت أن تستقبل حالات الأطفال الجرحى والمرضى، وأن تقاتل في صمت من أجل كل حياة صغيرة تدخل إليها باكية.
وفي يوم قاسٍ، لم تكن تدري أن عشرة من الأطفال الذين سينقلون إلى المستشفى لن يكونوا مرضى غرباء، بل سيكونون أبناءها.
تتراوح أعمارهم بين عامين و12 عاماً، جاؤوا إليها جثامين متفحمة بعد غارة جوية إسرائيلية استهدفت منزلها.
لحظات الصدمة لم تكن كافية لفهم المشهد، المشفى الذي عهدته مكاناً للشفاء تحول أمام عينيها إلى غرفة وداع.
لم تكن مستعدة لرؤية أبنائها على هذا النحو، ولم يكن قلبها مهيأ لتلقي هذا القدر من الألم دفعة واحدة حتى زوجها جاء برفقة أطفاله ليس حاملاً لهم كما اعتاد بل محمولاً معهم إلى العناية المركزة، ولا تعلم إن كانت ستفقده أيضاً.
تجمد الزمن، وغاب المنطق، وانهارت الكلمات، من يخبر طبيبة أن مهمتها لم تعد إنقاذ الأرواح فقط، بل دفنها أيضاً؟
هذه المأساة لم تكن استثناء، في غزة، تتكرر القصص ذاتها كل يوم: عائلات تُفنى في لحظة، بيوت تهدم فوق ساكنيها، وأمهات يجدن أنفسهن بين أكوام الركام يبحثن عن بقايا حياة.
ورغم كل ذلك، نادراً ما تسمع الإدانات، ولا تصدر بيانات التضامن إلا لماماً، آلاء لم تتلق أي تعزية رسمية، كأن الفقد هنا أقل وجعاً، أو كأن الأرواح التي تزهق لا تستحق أن تذكر.
في مفارقة قاسية، سارع عدد من القادة العرب في إلى إرسال التعازي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، علناً وسراً، إثر مقتل دبلوماسيين إسرائيليين.
أما حين قُتلت عائلة كاملة تحت الأنقاض في خان يونس، لم يجرؤ أحد على إصدار بيان شجب أو حتى تقديم تعزية للطبيبة التي فُجعت بأطفالها السبعة.
في كل مرة تستهدف فيها عائلة، تطوى صفحة جديدة من كتاب العدالة الدولية التي تبقى كلماتها حبيسة الورق، بينما الواقع يصرخ بلا مجيب.
ستحمل آلاء هذا الألم طويلاً، وجوه أطفالها ستبقى أمامها في كل ممر وكل سرير، تذكرها أن بعض الجروح لا تشفى، وبعض القصص لا يجب أن تنسى.
لقد فقدت الطبيبة آلاء النجار أبناءها في جريمة واضحة، ولكنها لم تجد في منظومة العدالة الدولية من يسمي الجريمة باسمها، أو يطالب بمحاسبة مرتكبيها.
وبينما تستمر معاناة آلاف العائلات في غزة، يزداد اتساع الفجوة بين ما تنص عليه المواثيق الدولية، وما يمارس على أرض الواقع.
العار لن يلاحق القتلة وحدهم، بل سيلاحق أيضاً صمت المجتمع الدولي، وتشريعاته التي تحولت إلى نصوص شكلية، وازدواجية معاييره التي تمنح الحصانة لمن يملك القوة وتحرم الضحايا حتى من الحق في الحزن العادل.
ما لم يواجه هذا الانهيار الأخلاقي والقانوني بمواقف حقيقية، فسيظل القانون الدولي مرادفاً للكذب، وستبقى الإنسانية معلقة على أبواب المؤتمرات دون روح.