مقالات

التاريخ لا ينتظر الغافلين: العرب وخيار العودة إلى الفعل

اليمن الجديد نيوز| مقالات| *ميشيل شحادة

لقد بدا النفوذ الأميركي لعقود طويلة أشبه بقدرٍ لا يُرد؛ إذ كانت واشنطن تتحكم بمصائر الدول، تغيّر الأنظمة، وتفرض شروطها الاقتصادية والسياسية على العالم بأسره. وقد رُسمت في المخيلة العربية والعالمية كقوة مطلقة لا تُقهر، حتى تعامل معها كثيرون وكأنها تحلّ محل مشيئة الله في الأرض.
غير أن هذا الوهم أخذ يتهاوى مع كل حرب خاضتها الولايات المتحدة، من فيتنام إلى العراق وأفغانستان، حيث تبيّن أن القوة العسكرية والاقتصادية، مهما بلغت، لا تستطيع أن تفرض إرادتها بلا حدود. أنفقت الولايات المتحدة تريليونات الدولارات وخسرت آلاف الأرواح، لكنها لم تجنِ سوى انكسار صورتها وتآكل الثقة بقدرتها على القيادة.
ثم جاءت الأزمة المالية عام ٢٠٠٨ لتكشف هشاشة النموذج النيوليبرالي الأميركي، فيما فجّرت الظاهرة “الترامبية” اليمينية انقسامات عميقة جعلت أميركا تتنازعها المصالح وتكابد للحفاظ على تماسكها الداخلي، بعدما انتقلت من كونها مصدر الاستقرار للنظام العالمي إلى أحد أبرز مصادر الاضطراب فيه.
النظام العالمي ينهار مع تراجع الإمبراطورية الأميركية، غير أن انهيار النظام القديم لا يعني نهاية التاريخ، بل هو بداية مرحلة جديدة تتشكل ملامحها في رحم الفوضى. وهذه هي المرحلة التي نعيشها اليوم: أنظمة إقليمية ودولية تتداعى، اقتصادات كبرى تهتز، قوى جديدة تصعد بحثاً عن موقعها، وأخرى تقليدية تتراجع عن عروشها. وفي قلب هذه الزلازل يقف الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر حساسية وخطورة في العالم، بما يملكه من موقع استراتيجي وثروات طبيعية، ورمزية دينية وحضارية. ومن ينجح في فرض إرادته في منطقتنا العربية سيحوز مفاتيح التأثير في النظام العالمي المقبل. ولهذا تتكالب القوى الكبرى والإقليمية، من أميركا وروسيا والصين إلى “إسرائيل” وتركيا وإيران، لإعادة رسم خريطة هذه المنطقة بما يخدم مصالحها.

هناك ثلاثة مشاريع تتصارع اليوم على مسرح المنطقة غير قادرة كلها على النجاح.
المشروع “الإسرائيلي،” الذي رغم تفوقه العسكري ودعم الغرب المطلق له، يعيش مأزقاً وجودياً.
لقد اعتقد الكيان الصهيوني طويلاً أنه يستطيع أن يفرض إرادته بالقوة، لكن غزة الصغيرة حوّلت نفسها إلى قلعة عصية، وأعادت تعريف موازين القوة، حتى باتت المقاومة هناك قادرة على تعطيل حسابات الجيش الأكثر تطوراً في المنطقة.
والمشروع التركي، بقيادة أردوغان، الذي يحاول أن يستعيد وهج العثمانية من بوابة الإسلام السياسي، يصطدم بحدود الداخل التركي أولاً، حيث الانقسامات الاقتصادية والسياسية، وبالتوازنات الدولية والإقليمية ثانياً.
أما روسيا والصين، ورغم صعودهما الكبير في العقدين الأخيرين، لا تعتبران ان ملء الفراغ في الشرق الأوسط أولوية، بل مجرد مجال توازن ضروري ضمن صراعات أوسع في أوروبا وآسيا.

المشروع الوحيد الذي ظهر وكأنه يحمل عناصر قوة تأسيسية هو المشروع الإيراني.
فقد تمكنت طهران من نسج شبكة واسعة من الحلفاء تمتد من بغداد إلى بيروت وصولاً إلى صنعاء، كما رسّخت قاعدة صناعية وعسكرية صلبة. غير أن هذه القوة تبقى مثقلة بالسياسات الطائفية والانقسامات الداخلية التي كبحت قدرتها على التبلور كمشروع جامع.

ومن ثمّ، فإن المشهد الإقليمي لا يزال يبدو ساحةً لصراع مشاريع ناقصة أو مشوّهة، عاجزة عن أن ترتقي إلى مستوى نظام بديل متماسك.

يبقى السؤال المركزي: أين العرب من كل هذا؟ وهل ما زال في وسعهم استعادة زمام المبادرة أم أن القطار قد فاتهم؟ إنهم مكبَّلون بأنظمة سايكس بيكو التي تتوشح بالعروبة ظاهرياً، لكنها في حقيقتها مرتهنة للغرب ومتصالحة مع المشروع الصهيوني.

وقد علمتنا التجربة التاريخية أن الأمم لا تولد مكتملة، بل تمر بمخاضات عسيرة قبل أن تنهض؛ فأوروبا توحّدت بعد قرون من الانقسام، واليابان خرجت من عزلتها لتصبح قوة كبرى، وروسيا نهضت من ركام الحرب العالمية الأولى، والصين من الثانية، وفيتنام من قلب الحرب الباردة، وإيران من أزمات السبعينات العالمية.

وحدهم العرب ظلوا خارج لحظة الفعل، خصوصاً بعد انهيار تجربة الوحدة الناصرية وفشل مشروع البعث، وتعثر تحرير فلسطين حتى الآن، فتُركوا بلا مشروع جامع ولا قيادة موحَّدة.

ومع ذلك لم تكن الساحة فارغة؛ فمنذ السبعينات تبلور محور المقاومة الممتد من فلسطين ولبنان إلى سوريا وإيران واليمن.

ورغم التباينات داخله، شكّل هذا المحور قوة استقلالية عطلت مشروع “الشرق الأوسط الجديد،” وأوقفت محاولات تصفية القضية الفلسطينية، واستنزفت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في حروب طويلة ومرهقة.

وبفضله عادت روسيا إلى المسرح الدولي عبر سوريا، فيما تحررت الصين تدريجياً من موقع الدفاع لتصبح لاعباً سياسياً دولياً. برهن هذا المحور أن الشعوب المقهورة قادرة على صناعة التاريخ حين تملك الإرادة.

وأتت الأحداث الأخيرة لتؤكد ذلك بقوة؛ فغزة، رغم الحصار والدمار المتكرر، تحولت إلى أيقونة عالمية للمقاومة، وأثبتت في كل مواجهة أن القوة لا تُقاس بالعتاد وحده بل بالإرادة والعزيمة والاستعداد للتضحية.

هذا القطاع الصغير الحجم أربك حسابات أكبر الجيوش وأدخل “إسرائيل” في أزمة داخلية غير مسبوقة حول جدوى مشروعها، وأعادت فرض القضية الفلسطينية على العالم كقضية حرية وكرامة إنسانية قبل أن تكون مسألة وطنية.

العالم من حولنا يتغير بوتيرة مذهلة؛ فأميركا لم تعد قادرة على قيادة النظام الدولي بمفردها، بل أصبحت غارقة في صراع داخلي حول هويتها ودورها.

وروسيا تسعى إلى استعادة مجدها عبر صراعها في أوكرانيا وحضورها في الشرق الأوسط، بينما تصعد الصين كقوة اقتصادية وعسكرية ما زالت تختبر حدود تدخلها السياسي.

أما الاتحاد الأوروبي فيعيش أزمة هوية عميقة، منقسماً بين قومياته وصعود اليمين الفاشي المتطرف، ومتردداً في موقعه بين أميركا وروسيا والصين.

وفي ظل هذه التحولات، يغدو النظام العالمي مسرحاً للفوضى، لكنه يفتح في الوقت نفسه فرصة نادرة أمام الشعوب والأمم القادرة على استثمار هذا الانهيار لصياغة موقع جديد لها.

في هذا السياق، تبدو المنطقة العربية ساحة اختبار تاريخية.
فهي مسرح الحروب الكبرى منذ أكثر من نصف قرن، من الصراع العربي الصهيوني، الى الغزو الأميركي للعراق، ومن الحرب الأهلية اللبنانية إلى الحرب السورية واليمنية.

هذه الساحة لم تكن مجرد هامش في الصراعات الدولية، بل كانت قلبها النابض.
ولذلك يمكن القول إن العرب لم يغيبوا عن مسرح التاريخ تماماً، بل كانوا دائماً مادته الخام ووقوده، لكن من دون أن يكون لهم موقع القيادة. القوى الكبرى استخدمت أرضهم وثرواتهم كساحة لتصفية حساباتها، فيما اكتفت أنظمتهم الحاكمة بالارتهان والتبعية.

العرب يملكون كل مقومات الأمة من لغة وتاريخ وجغرافيا وموارد، غير أن هذه المقومات قد تتحول إلى عبء إذا لم تُصغ في مشروع سياسي جامع يواكب روح العصر. والمطلوب مشروع ديمقراطي يعيد القرار إلى الشعوب، اجتماعي يواجه الفقر والتهميش، قومي تكاملي يبدد التجزئة والقطرية، وإنساني يتجاوز حدود القومية الضيقة نحو تعاون عالمي أرحب.

فالعرب اليوم على مفترق مصيري: إما أن ينهضوا في إطار جامع يستنهض طاقاتهم، أو يتواروا في هوامش الخرائط.

لقد أثبتت تجارب اليمن ولبنان وغزة وإيران أن الإرادة قادرة على قلب الموازين، وأن ما عُدّ يوماً “مستحيلاً” يمكن أن يتحول إلى واقع إذا وجدت القيادة والرؤية.

غير أن هذه النماذج، مهما بلغت أهميتها، تظل جزئية ومحدودة، ولا يمكن أن تكون بديلاً عن مشروع عربي جامع. فالأمة العربية، بما تملكه من ثقل ديمغرافي وعمق حضاري وموقع جغرافي فريد، أكبر من أن تُختزل في هوامش مشاريع الآخرين أو أن تبقى تابعة لها.

إن العرب اليوم مدعوون إلى صياغة مشروعهم الخاص، مشروع يليق بتاريخهم وطاقاتهم ويضعهم في موقع الشريك الفاعل في بناء العالم الجديد، لا التابع الذي يُملى عليه دوره.

هذه ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية؛ فإما أن يكتب العرب مستقبلهم بأيديهم، أو يُكتب عنهم بوصفهم أمة عجزت عن اقتناص لحظتها التاريخية.

هنا يكمن جوهر التحدي: أن نملك الشجاعة لنقول إن زمن الانتظار قد انتهى، وإن لحظة العرب قد حانت. فإما أن نكتب فصلاً جديداً في كتاب التاريخ، أو نترك الآخرين يكتبونه عنا. وفي الحالتين، لن يبقى العالم على حاله.

*كاتب فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى