الاخبار الرئيسيةتقارير وتحليلات

أزمة البحر الأحمر.. إطار استراتيجي دائم يعيد صياغة الاقتصاد العالمي

اضطراب الملاحة، تصاعد مخاطر التأمين، وعودة حذرة لشركات الشحن الكبرى… كيف تحوّل البحر الأحمر من ممر آمن إلى عامل ضغط دائم على التجارة والطاقة وفق تقارير دولية؟

اليمن الجديد نيوز | تقارير وتحليلات

تشهد طرق التجارة العالمية واحدة من أعقد مراحلها في التاريخ الحديث، مع استمرار أزمة البحر الأحمر في فرض واقع جديد على حركة الشحن والطاقة وسلاسل الإمداد العالمية.
ولم تعد التطورات الجارية تُقرأ كأزمة مؤقتة، بل كإطار استراتيجي طويل الأمد يعيد تشكيل الحسابات الاقتصادية والسياسية للحكومات وشركات النقل ومراكز القرار في العواصم الكبرى.

فبينما كان البحر الأحمر يُعد تقليدياً من أكثر الممرات البحرية استقراراً وأهمية، كشفت التطورات الأخيرة، من الهجمات المتكررة إلى إعادة تموضع شركات الشحن، أن المنطقة دخلت مرحلة جديدة من عدم اليقين، ما فرض تغييرات عميقة في أنماط التجارة العالمية.

شريان التجارة العالمي تحت الضغط

لطالما شكّل البحر الأحمر وقناة السويس شرياناً حيوياً للتجارة الدولية.
ووفق تقرير لموقع News.Az، يمر عبر مضيق باب المندب نحو 12% من حجم التجارة العالمية، إضافة إلى قرابة 30% من حركة الحاويات بين آسيا وأوروبا.
ويمنح هذا المسار البحري الشركات ميزة استراتيجية تتمثل في اختصار آلاف الأميال البحرية، وتقليل استهلاك الوقود، وتسريع عمليات التسليم بين موانئ الهند والصين وشرق المتوسط وأوروبا.

غير أن هذه الأهمية الاستثنائية جعلت الممر عرضة للاضطرابات، في ظل تصاعد التنافسات الجيوسياسية والصراعات الإقليمية، ووجود جماعات مسلحة تمتلك قدرات على استهداف السفن باستخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ.
وأسهمت هذه الهجمات، حتى المحدودة منها، في خلق تأثير تراكمي على الأسواق، دفع شركات التأمين إلى رفع أقساط “مخاطر الحرب”، وأجبر شركات الملاحة على تحويل مساراتها، ما أدى إلى تذبذب معايير الشحن وارتفاع التكاليف بسبب الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح.

ومع تكرار هذه التطورات، تعمّقت القناعة لدى الشركات والحكومات بأن البحر الأحمر لم يعد ممراً مضموناً كما كان في السابق.

باب المندب .. نقطة الاختناق الأكثر حساسية

يُعد مضيق باب المندب قلب الأزمة وأخطر نقاط الاختناق البحرية في العالم.
فأي اضطراب محدود في هذا الممر الضيق ينعكس فوراً على الأسواق العالمية، ويحوّل حركة الملاحة إلى قرار يومي يخضع لتقييمات أمنية متغيرة، مرتبطة بتوازنات القوى البحرية الدولية ومواقف الأطراف المسلحة في المنطقة.

وقد تجسّد هذا التأثير بوضوح عندما اضطرت كبرى شركات الشحن إلى تحويل مساراتها عبر رأس الرجاء الصالح، ما أضاف ما بين 10 و14 يوماً إلى زمن الرحلات، ورفع التكاليف التشغيلية بشكل كبير.
وتبرز خطورة هذا التحول بالنسبة للدول التي تعتمد على استيراد الطاقة أو المواد الخام ضمن جداول دقيقة، حيث تتحول أيام التأخير إلى أعباء مباشرة على الإنتاج والمخزون وسلاسل التوريد.

اضطراب الشحن يهدد أمن الطاقة

تُعد أسواق الطاقة الأكثر تأثراً بأزمة البحر الأحمر. فبالنسبة لدول الخليج، يشكّل هذا الممر طريقاً رئيسياً لصادرات النفط، بينما تعتمد أوروبا وآسيا عليه لواردات النفط والغاز الطبيعي المسال.
ورغم وجود بدائل مثل خطوط الأنابيب، فإن قدرتها الاستيعابية ومرونتها لا تضاهي النقل البحري.

وأي تهديد لحركة ناقلات النفط ينعكس فوراً على الأسعار العالمية، ويؤدي إلى زيادة التخزين الاستراتيجي، وارتفاع الضغوط على مرافق الطاقة، واضطراب العقود قصيرة وطويلة الأجل.
أما الغاز الطبيعي المسال، الذي ازدادت أهميته لأوروبا وآسيا بعد الحرب الأوكرانية، فقد أصبح أكثر حساسية لأي تأخير أو تحويل للشحنات، ما يدفع الأسواق الفورية إلى التفاعل الحاد حتى مع اضطرابات محدودة.

التأمين البحري .. كلفة الخطر وإعادة التصنيف

وفق المعطيات الواردة في التقرير، شهد قطاع التأمين البحري تحولات عميقة خلال الأزمة.

فقد ارتفعت أقساط “مخاطر الحرب” بشكل ملحوظ، وصُنّفت مناطق واسعة من البحر الأحمر كبؤر عالية الخطورة، ما وضع شركات الشحن أمام خيارات صعبة: تحمّل الكلفة، تمريرها إلى المستهلك، أو تجنب المنطقة كلياً.

ومع تراجع الهجمات مؤخراً، انخفضت أسعار تأمين مخاطر الحرب بنحو 70% مقارنة بذروة التوتر في منتصف عام 2024، إلا أنها عادت للاستقرار لاحقاً.
ويحذّر خبراء التأمين من أن أي انخفاض إضافي يتطلب فترة طويلة من الاستقرار الفعلي، وليس مجرد هدوء مؤقت.

هذه التطورات دفعت الشركات إلى إعادة صياغة استراتيجياتها اللوجستية، عبر تنويع مصادر التوريد، وتعديل سياسات المخزون، واستخدام الشحن الجوي للبضائع عالية القيمة، إضافة إلى تغيير جداول الشراء لتفادي الاختناقات الموسمية. ويُنظر إلى هذه التغييرات باعتبارها تحولات هيكلية في التفكير اللوجستي العالمي.

بدائل قيد البحث .. والبحر الأحمر بلا بديل كامل

تتزايد النقاشات الدولية حول تطوير بدائل للبحر الأحمر، تشمل ممرات برية بين آسيا وأوروبا، وتوسيع الموانئ، وإنشاء مراكز لوجستية متعددة الوسائط، إلى جانب تعزيز الدوريات البحرية الدولية.
غير أن هذه المشاريع تحتاج سنوات من الاستثمار، ولن تشكّل بديلاً كاملاً للممر في المدى القريب، بل أدوات لزيادة المرونة وتقليل الاعتماد على نقطة اختناق واحدة.

عودة CMA CGM .. انعطافة حذرة في مسار الأزمة

رغم المخاطر، بدأت تظهر مؤشرات تغيير لافتة، تمثلت في إعلان شركة الشحن الفرنسية CMA CGM عودتها التدريجية إلى العبور عبر قناة السويس.
وبحسب متابعات، تخطط الشركة لتسيير خط India America Express بين الهند وباكستان والولايات المتحدة عبر السويس، مع أول رحلة مرتقبة من كراتشي خلال الشهر المقبل.

ويأتي هذا القرار عقب إشارات عن وقف الهجمات بعد وقف إطلاق النار في غزة في أكتوبر الماضي. ورغم امتناع الشركة عن التعليق رسمياً، وصف خبراء، من بينهم بيتر ساند، هذه الخطوة بأنها أوضح تحول منذ بدء الأزمة، مشيرين إلى أن الشركة لم تعد تتعامل مع المرور “حالة بحالة”.

ومع ذلك، لا يزال حجم العبور أقل من مستويات ما قبل الأزمة، إذ بلغ عدد الرحلات عبر باب المندب أعلى مستوى له خلال عامين، لكنه ما زال عند نحو نصف مستويات أكتوبر 2023.
وفي المقابل، تواصل شركات كبرى مثل ميرسك وهاباغ لويد اتباع نهج أكثر تحفظاً، مع تأكيدها أن أي عودة ستكون تدريجية ومرهونة بتقييمات أمنية صارمة.

إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي

تُظهر المؤشرات أن أزمة البحر الأحمر تمثل أزمة هيكلية عميقة الجذور، ناتجة عن صراعات ممتدة ومنافسات إقليمية وهشاشة سياسية، ما يفرض على الشركات والحكومات تبني سيناريوهات طوارئ دائمة وخطط بديلة طويلة الأمد.

وقد تحولت الأزمة إلى اختبار حقيقي لمرونة الاقتصاد العالمي، أجبر الجميع، من شركات التأمين إلى وزراء الطاقة، على إعادة تقييم افتراضاتهم.
أما العودة الحذرة لبعض شركات الشحن، فتعكس رغبة في استعادة الطريق الأقصر والأكثر كفاءة، دون الانزلاق إلى مخاطرة غير محسوبة.

وفي المحصلة، لم يعد البحر الأحمر مجرد ممر ملاحي، بل عامل مؤثر يعيد رسم مسارات التجارة العالمية عبر هشاشة أمنه، لا عبر إغلاقه الكامل.

المصدر: بقش + وكالات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى